رحلة الصيف والخريف
بقلم : د. بوزيد الغلى
بين حر المصيف وكرب الخريف تمتد رحلة فئام من الناس جبرا لا اختيارا فرارا من حمارة القيظ ، أما الواطئون على الجمر الراكبون مراكب الصبر فمعظمهم شغله الشغل أو أعوزته الحيلة ، وحيلة من لا حيلة له الصبر .
أولئك المرتحلون أضحوا اليوم يمثلون السواد الاعظم من سكان أسا الذين تلتهب مساكنهم كل صيف ، وتصطلي جلودهم وجباههم بلظى أشعة الشمس الحارقة ، فيهجروا المدينة العامرة المشبعة بعبق التاريخ الى أمكنة أخرى ذوات ظل ظليل و هواء عليل ، فهل الترحال الصيفي يشفي الغليل؟
إن لسان حكمة الأسلاف يصف الارتحال بالأمر الفرط الذي يكبد صاحبه زيادة على الرهق والعناء خسارة أدناها ما يفيده منطوق المثل الحساني القائل : " أخسر من لبن الرحيل " .
ليس بملوم من يفر من قدر الله الى قدر الله ، ولكن عين المحلل لا تقنع بغير ربط الظواهر بمسبباتها والنوازل بعللها ، وذاك ما تحاوله هذه المقالة التي يرصد صاحبها بعض إفرازات تغير نمط العيش و طبيعة العمران بهذا المكان – أسا - ، وهو في ذلك بمثابة الشاهد من أهلها الذي ذاق وعرف مرارة وضنك العيش في بيوت ساخنة جدرانها حامية أفنيتها . فما الذي حمل الأوائل على ما عجز عنه الأحفاد من تحمل الحر وتجرع المر ؟ أم أن الأمر لم يكن بهذا السوء ؟
أجل ، قد يتبادر الى الذهن أن هذه المسارعة المحمومة الى هجران الديار كل صيف راجع الى ارتفاع درجات الحرارة بفعل الاحتباس الحراري ، ولكن واقع الحال يفيد أن حرارة الطقس لم تحمل الأوائل على تكبد مشاق وأوهاق " الرحيل" للانتجاع بالمناطق الباردة ، وذلك لأنهم كانوا أقدر على مصانعة ظروف حياتهم القاسية والتكيف معها بل الاستجابة لتحدياتها معماريا و بيئيا و معيشيا . ولك أن تعلم أن من أسباب مقاومة الأوائل للحرارة المفرطة ، أن مساكنهم ومنازلهم البسيطة تمثل عمرانا مقاوما لقساوة الطبيعة إن لم يكن ملطفا لشدتها وحدتها .ذاك العمران الذي قاوم عوادي الزمان ، اعتمد مهندسوه في تشييده شروطا دقيقة موائمة لمناخ المنطقة ، فأدوات البناء و مواده لم تكن من الاسمنت و الحديد الذي يحتفظ لمدة طويلة بالحرارة ويزيد البيوت التهابا ، و إنما اعتمد في البناء على جدران سميكة من الطين والحجارة وأعمدة الخشب ، وقد فقه بعض السياح الاجانب المقيمين بواحة تغمرت هذه الخاصية ، فشيدوا منازل فخمة ظاهرها الطين والتراب وباطنها الرخام والزخرف .
وقد لا تخطئ عين المتأمل في معمار القصور والدواوير القديمة وجود الأفنية والصحون غير المسقفة التي تؤمن التهوية ودخول الاشعة الى الغرف ، كما تؤمن إمكانية النوم ليلا تحت أديم السماء ، وذلك لأن النوم تحت السقوف قد لايطاق من شدة الحرارة التي يكاد يستوي ليلها بنهارها . ولا يكاد يخلو بيت من تلك البيوت من سقيفة تكفل لأهلها غفوة وقت الظهيرة ، فقل على الأيام أن يفوت سكان المناطق الحارة قيلولة النهار ، وقد ورد في الأثر : " قيلوا فان الشياطين لاتقيل " . أما دنيا الناس اليوم القائمة على التفاخر والتكاثر ، فلا ينظر في ظلها الى بيوت القدامى المبنية بالطين الا بعين الصغار والحقار ، والحق أنهم كانوا أذكى وأمهر وأكثر تقيدا ومراعاة لشروط وظروف الطبيعة وقواها القاهرة ، فلا تجد لهم بيتا مشيدا في مجرى نهر وإن بدا ناشفا جافا كما هو واقع اليوم ، فالأودية و ضفافها كانت تستغل للزراعة لا للسكن والإعمار ، ولذلك ليس اعتباطا أن قصر أسا المطل على وادي النخيل يتربع على مرتفع يشكل حصنا دفاعيا من جهة ، وتمثل بعض أبوابه من جهة أخرى منافذ يتسلل منها النسيم العليل القليل في عز الصيف ، ومنها" باب الريح".
ومن المؤسف أن الخلف لم يحذو حذو السلف في العناية بالمجال الأخضر ، ففيما عدا الواحة التي يشهد نخيلها السامق على كد الأوائل وجدهم ،تكاد تكون المدينة الناشئة – أي الاحياء الجديدة بأسا- صحراء قاحلة من المساحات الخضراء التي يفترض أن تمثل الرئة التي تتنفس منها هذه القلعة الراقدة عند قدم جبل باني ، بل ان الساحات العمومية الحديثة النشأة عارية من الخضرة ، وبدلا من أن يحاط تمثال " سفينة الصحراء" بالساحة الكبرى ببساط أخضر أو حديقة غناء ،رصعت جوانبه بالآجر الاحمر الباهت إلا موضع مغرس يتيم لنخلة يتيمة توحي بالشحوب واليبس ، وكأن الخضرة والنضرة حكر وحصر على " المنطقة الخضراء "التي تعمرها معظم الادارات العمومية ...
إن الحديث ذو شجون ، وما ينسحب على أسا ينوب أخواتها من المناطق ذات الطقس الجاف والحار ، بيد أن ما يثير الاهتمام بصيف أسا هو نواتجه الباعثة على شيء من الاغتمام ، فالنزوح شبه الشامل للأهالي يخلف مشاكل منها :
1 . ركود تجاري ، اذ أن النزوح يقلص نسبة الطلب فضلا عن ضعف القدرة الشرائية التي تعم بها البلوى في مختلف المناطق ، و لست أفشي سرا إذا قلت إن باعة الدواجن والاسماك على قلتهم بأسا يقفون على حافة الافلاس كل صيف.
2. ان اخلاء البيوت أو خلوها من ساكنيها خلال الصيف يشجع عمليات لاتزال محدودة من النهب والسرقة ، وهي ظواهر تكاد تكون في حكم المعدوم خلال الفصول الأخرى.
3. ان عملية النزوح ومشاق نقل الامتعة الى المدن المجاورة لآسا لاتثقل كواهل العوائل فحسب ، بل تجعل معظمها يكتوي بنار القلق الداخلي الناجم عن انشطار وتشتت الذهن بين الاهتمام بتلبية متطلبات الانتجاع الصيفي والاغتمام من فرط الوجف والخوف على مصير الممتلكات المتروكة بأسا جزر النهاب وكل وغد مجرم .
بقلم : د. بوزيد الغلى
بين حر المصيف وكرب الخريف تمتد رحلة فئام من الناس جبرا لا اختيارا فرارا من حمارة القيظ ، أما الواطئون على الجمر الراكبون مراكب الصبر فمعظمهم شغله الشغل أو أعوزته الحيلة ، وحيلة من لا حيلة له الصبر .
أولئك المرتحلون أضحوا اليوم يمثلون السواد الاعظم من سكان أسا الذين تلتهب مساكنهم كل صيف ، وتصطلي جلودهم وجباههم بلظى أشعة الشمس الحارقة ، فيهجروا المدينة العامرة المشبعة بعبق التاريخ الى أمكنة أخرى ذوات ظل ظليل و هواء عليل ، فهل الترحال الصيفي يشفي الغليل؟
إن لسان حكمة الأسلاف يصف الارتحال بالأمر الفرط الذي يكبد صاحبه زيادة على الرهق والعناء خسارة أدناها ما يفيده منطوق المثل الحساني القائل : " أخسر من لبن الرحيل " .
ليس بملوم من يفر من قدر الله الى قدر الله ، ولكن عين المحلل لا تقنع بغير ربط الظواهر بمسبباتها والنوازل بعللها ، وذاك ما تحاوله هذه المقالة التي يرصد صاحبها بعض إفرازات تغير نمط العيش و طبيعة العمران بهذا المكان – أسا - ، وهو في ذلك بمثابة الشاهد من أهلها الذي ذاق وعرف مرارة وضنك العيش في بيوت ساخنة جدرانها حامية أفنيتها . فما الذي حمل الأوائل على ما عجز عنه الأحفاد من تحمل الحر وتجرع المر ؟ أم أن الأمر لم يكن بهذا السوء ؟
أجل ، قد يتبادر الى الذهن أن هذه المسارعة المحمومة الى هجران الديار كل صيف راجع الى ارتفاع درجات الحرارة بفعل الاحتباس الحراري ، ولكن واقع الحال يفيد أن حرارة الطقس لم تحمل الأوائل على تكبد مشاق وأوهاق " الرحيل" للانتجاع بالمناطق الباردة ، وذلك لأنهم كانوا أقدر على مصانعة ظروف حياتهم القاسية والتكيف معها بل الاستجابة لتحدياتها معماريا و بيئيا و معيشيا . ولك أن تعلم أن من أسباب مقاومة الأوائل للحرارة المفرطة ، أن مساكنهم ومنازلهم البسيطة تمثل عمرانا مقاوما لقساوة الطبيعة إن لم يكن ملطفا لشدتها وحدتها .ذاك العمران الذي قاوم عوادي الزمان ، اعتمد مهندسوه في تشييده شروطا دقيقة موائمة لمناخ المنطقة ، فأدوات البناء و مواده لم تكن من الاسمنت و الحديد الذي يحتفظ لمدة طويلة بالحرارة ويزيد البيوت التهابا ، و إنما اعتمد في البناء على جدران سميكة من الطين والحجارة وأعمدة الخشب ، وقد فقه بعض السياح الاجانب المقيمين بواحة تغمرت هذه الخاصية ، فشيدوا منازل فخمة ظاهرها الطين والتراب وباطنها الرخام والزخرف .
وقد لا تخطئ عين المتأمل في معمار القصور والدواوير القديمة وجود الأفنية والصحون غير المسقفة التي تؤمن التهوية ودخول الاشعة الى الغرف ، كما تؤمن إمكانية النوم ليلا تحت أديم السماء ، وذلك لأن النوم تحت السقوف قد لايطاق من شدة الحرارة التي يكاد يستوي ليلها بنهارها . ولا يكاد يخلو بيت من تلك البيوت من سقيفة تكفل لأهلها غفوة وقت الظهيرة ، فقل على الأيام أن يفوت سكان المناطق الحارة قيلولة النهار ، وقد ورد في الأثر : " قيلوا فان الشياطين لاتقيل " . أما دنيا الناس اليوم القائمة على التفاخر والتكاثر ، فلا ينظر في ظلها الى بيوت القدامى المبنية بالطين الا بعين الصغار والحقار ، والحق أنهم كانوا أذكى وأمهر وأكثر تقيدا ومراعاة لشروط وظروف الطبيعة وقواها القاهرة ، فلا تجد لهم بيتا مشيدا في مجرى نهر وإن بدا ناشفا جافا كما هو واقع اليوم ، فالأودية و ضفافها كانت تستغل للزراعة لا للسكن والإعمار ، ولذلك ليس اعتباطا أن قصر أسا المطل على وادي النخيل يتربع على مرتفع يشكل حصنا دفاعيا من جهة ، وتمثل بعض أبوابه من جهة أخرى منافذ يتسلل منها النسيم العليل القليل في عز الصيف ، ومنها" باب الريح".
ومن المؤسف أن الخلف لم يحذو حذو السلف في العناية بالمجال الأخضر ، ففيما عدا الواحة التي يشهد نخيلها السامق على كد الأوائل وجدهم ،تكاد تكون المدينة الناشئة – أي الاحياء الجديدة بأسا- صحراء قاحلة من المساحات الخضراء التي يفترض أن تمثل الرئة التي تتنفس منها هذه القلعة الراقدة عند قدم جبل باني ، بل ان الساحات العمومية الحديثة النشأة عارية من الخضرة ، وبدلا من أن يحاط تمثال " سفينة الصحراء" بالساحة الكبرى ببساط أخضر أو حديقة غناء ،رصعت جوانبه بالآجر الاحمر الباهت إلا موضع مغرس يتيم لنخلة يتيمة توحي بالشحوب واليبس ، وكأن الخضرة والنضرة حكر وحصر على " المنطقة الخضراء "التي تعمرها معظم الادارات العمومية ...
إن الحديث ذو شجون ، وما ينسحب على أسا ينوب أخواتها من المناطق ذات الطقس الجاف والحار ، بيد أن ما يثير الاهتمام بصيف أسا هو نواتجه الباعثة على شيء من الاغتمام ، فالنزوح شبه الشامل للأهالي يخلف مشاكل منها :
1 . ركود تجاري ، اذ أن النزوح يقلص نسبة الطلب فضلا عن ضعف القدرة الشرائية التي تعم بها البلوى في مختلف المناطق ، و لست أفشي سرا إذا قلت إن باعة الدواجن والاسماك على قلتهم بأسا يقفون على حافة الافلاس كل صيف.
2. ان اخلاء البيوت أو خلوها من ساكنيها خلال الصيف يشجع عمليات لاتزال محدودة من النهب والسرقة ، وهي ظواهر تكاد تكون في حكم المعدوم خلال الفصول الأخرى.
3. ان عملية النزوح ومشاق نقل الامتعة الى المدن المجاورة لآسا لاتثقل كواهل العوائل فحسب ، بل تجعل معظمها يكتوي بنار القلق الداخلي الناجم عن انشطار وتشتت الذهن بين الاهتمام بتلبية متطلبات الانتجاع الصيفي والاغتمام من فرط الوجف والخوف على مصير الممتلكات المتروكة بأسا جزر النهاب وكل وغد مجرم .
هذه بضع أفكار أطرحها طرح الشارح للوضع الناشئ تاركا للقارئ والمهتم فسحة التأمل والتدبر والتفكير في الحلول الممكنة .
أخوكم وابنكم البار ويكيليكس الصحراء
من هو السبب في هدا كله ان اتحدت ولست بنازح ؟؟ وان أعتقد ان السبب الرئس هي الدولة المغربية كما احمل جزء من المسؤلية للانسان الصحراوي باســـا
ردحذف