الشباب
و حركية المجتمع بين أسئلة الراهن و حمأة التغيير
ليس عبثا أن يقود الحديث عن الشباب إلى
مداخل تؤشر على حركية مجتمع ما في اتجاه ما، بل لا مناص في وصل واقع حال بواقع
استقبال من قراءة ما تختزنه مكنونات الشباب من آلام و آمال، وتجنبا للغوص كثيرا في
التعميم يجدر بي تخصيص الحالة و الوقوف على المشهد الشبابي بآسا، في العلاقة بحركية المجتمع، في مكوناته و أسئلة الراهن، والتغيير و معوقاته قبل ممكناته.
1-
المشهد الشبابي و العلاقة بحركية المجتمع:
يحدثنا التاريخ عن أصول عربية و افريقية و أمازيغية لسكان هده المنطقة ، وعن
نمط حياة البداوة و الترحال،وعن ترويض الطبيعة القاسية التي ألهمت الإنسان
الصحراوي عبر الأزمنة ابتداع أساليب البقاء، و لا غرو أن تكون عوامل الكثرة و
التنظيم و السلاح محددة لضمان الحماية و الذود عن الديار، بل في الغزو والسطو على
ثروة الآخرين عند الحاجة , نعم إن للطبيعة القاسية أثرها في نفس الإنسان، بل هي
معلمه الأول , فالكرم و حسن الخلق و الشجاعة، خصال تعايشت دوما مع الحزم و الصرامة
في فرض احترام تراتبية اجتماعية، ينتصب الشيوخ و حكماء القبائل على رأسها، و يتدرج
الشباب دون ذلك، لكن عبء الرعي و حمل السلاح ظلت من صميم وظيفة الشباب وباارغم من
استمرار الرعي نمط إنتاج ساد لفترة طويلة،
فإنه لم يمنح للرعاة، و هم في الأعم من الشباب مكانة المنتج في دورة الإنتاج
المعروفة بل يمكن أن يختزل الدور المنوط بالشباب انداك في أعباء السخرة، بما تعنيه
السخرة من إملاءات لشروط مالك القطيع في تدبير الثروة، ولأنه رب الأسرة أيضا فتعني
السخرة امتثال الراعي الابن لقرارات و رغبات الأب في اختيار الزوجة وانتظار نسل
يحمل اسم الخيمة وبالنهاية تكون الأسرة والقطيع متلازمتان لمدلول الثروة. لكن ما
حدث في منتصف الخمسينات من انخراط فئات عديدة من أبناء القبائل الصحراوية في
المقاومة المسلحة ضد المستعمر الاسباني ، وما تعرضت له قطعان الماشية خلال عملية
" إيكوفيون" من شبه إبادة و ما تلاه من مؤامرات ضد جيش التحرير و فرض
نزع سلاحه و ضم جل عناصره للجيش الملكي، كل ذلك ولد وضعا جديدا ميزه نزوح عشرات العائلات
إلى المداشر الصحراوية و بداية تشكل نمط حياة جديدة و بأعباء جديدة . و لعل أهم ما
يمكن التركيز عليه خلال تلك الفترة هو خروج الشباب في رحلة البحث عن العمل و الجندية و أوراش الإنعاش و امتهان التجارة أو
الفوز بعقد عمل بإحدى الدول الأوروبية , وجهات استأثرت باهتمام العديدين آنذاك، و
بموازاة ذلك كانت المدرسة الوحيدة بآسا تستقبل الوافدين من التلاميذ والتي غطى نفوذها من ضواحي طانطان غربا إلى
الزاك جنوبا،لكنها لم تستهو الكثيرين الذين غادروا المقاعد مبكرا، و بالرغم من ذلك
باتت الفئات الاجتماعية و خاصة أبناء المجندين تتطلع للاستمرار في المقاعد بل و
نجحت قلة في تجاوز المرحلة الابتدائية و متابعة الدراسة خارج المنطقة , و مع بداية
السبعينات من القرن الماضي ساهمت موجة الجفاف في تزايد العطالة في صفوف الشباب و
خيم الفقر و جثم على حياة الأسر، و بإندلاع حرب الصحراء دفعت شروط البؤس التي تئن
تحت وطأتها العائلات آلاف الشباب للتجنيد في صفوف الجيش، و الرمي بهم في أتون
الحرب و كان من مخلفاتها المئات من الضحايا، بل إن حملة التجنيد تلك و التي لم
تستثن أعرجا ولا أعورا و لا معتوها، واكبتها حملة تصفية للقطعان و تسميم الآبار و
الزج بمئات الأبرياء في غياهب المعتقلات السرية مما خلق اضطراب لا مثيل له، هز
أركان البنى الاجتماعية , و نال من قدرة السكان على الوفاء بالتزامات الأبناء في
العيش و الدراسة , و انسحب العشرات من أسلاك الدراسة الإعدادية في اتجاه أسلاك
الجندية في مغامرة أشبه بالانتحار الجماعي و الحكم على المنطقة بالتفقير و التجهيل
عاكسة بذلك وجها بشعا لسياسة المخزن بالمنطقة تمثل في تخصيصها بصفة الخزان البشري
لتطعيم الحرب.
من رحم تلك المعانات و بازدياد الأيتام و الثكالى من ضحايا الحرب و
المفقودين مجهولي المصير و المعتقلين، و باستمرار واقع البؤس و الفقر, تشكل الإحساس
بأن المنطقة بلغت مبلغا لا حد له من التهميش إما أن تستسلم لقدرها و تغط في سبات أبدي
منسية مهملة، أو تستفيق و تستنهض عزائم وهمم أبنائها و بناتها، لتلوذ بما تبقى من
كرامة و إباء و تختار المقاومة و رفض الاستبداد
2-
المكونات و أسئلة الراهن
إذا كانت للفقر و
التهميش و سياسة العقاب الجماعي التي مورست لعقود ضد هذه المنطقة ما ذكر سابقا من
تجليات و نتائج , إلا أن أفضالا أخرى خرجت بين ألسنة ذلك اللهيب، و لعل أبرزها التوزيع العادل لمنسوب الفقر ما
أفضى إلى وحدة النظام الغدائي الهش بطبيعته ( أو لم يقولوا تفكها أن الزائر ليلا
لآسا يشتم رائحة الأرز من أمزلوك ) فكان طبيعيا أن تزول الفوارق الوهمية ذات
النزعة العرقية أو القبلية، بل أنه حتى لفترات قريبة كان الوافد من المدرسين أو
عمال البناء يجد من يحتضنه و يسكنه بيته، نعم لقد كانت النزاهة و الأريحية و
الإقدام قيما ذات أفضال كثيرة هي الأخرى على وحدة مكونات المنطقة , فالتأمت صفوف
الشباب من طلبة و تلاميذ و موظفين و عمال في حلقات التأطير و النقاش في الفضاء
المفتوح , و استطاعت بتضامنها ووحدتها أن تنجز ما كان يعتبر وقت ذاك تحديا غير
مسبوق في محطات تاريخية حولت آسا من مجرد إسم عابر لمأوى عائلات المجندين إلى قلعة
الصمود و التحدي و مدرسة في النضال , نعم و لكن لم ينهزم المخزن في المعركة بل في
أسلوب , و كثيرا ما وجدت الجماهير الشبابية إكراهات جمة تكاد تصيب " مبدل
أساليب مقاومتها " بالعطل .
لقد اجتهدت سلطات المخزن
في تجنيد العشرات و غطت الإقليم بأكثر بكثير من حاجياته شيوخا ومقدمين ومخبرين
واستدرجت آخرين ودائما من الشباب إلى تذوق الريع الاقتصادي، فتحولت العمالة إلى
خلية لا تنام ولا تضجر من استقبال واضعي" طلبات سندات الطلب" أو عارضي
الترشح لنيل صفقة أشغال أو خدمات وليس في ذلك من العيب سوى أن ماكينة إنتاج نخب الريع
تختار هذه المرة الشباب.ولأن بعضا من الشباب حسموا اختيارهم بالاصطفاف إلى جانب
طوابير المتمصلحين فلم يعد في وارد اهتمامهم التفكير في مصلحة الجماهير، إنهم
يخذلون الجماهير لكنهم لن يضمنوا دواما لحالهم، ولأن الريع في أصله منتوج مخزني
لشراء الذمم و تسمين قطط النظام،و مهما سمنت القطط فلن تغير بالنهاية اسمها .
3-
التغيير معوقاته قبل ممكناته
غير خاف أن للتغيير
مضامين تتجدد بحسب الشروط المؤسسة، وتجاوزا لن أخوض في تلك المضامين و الشروط و هي
موضوع ورقة أخرى في هذا اللقاء, لكنني و ارتباطا بموضوع هذه الورقة سأعرج على بعض
من معوقات التغيير بالمنطقة قبل ممكناته كما ذكرت بالعنوان . ‘ن أشواط الصراع لم
تكن لتتحدد أبدا في مساحة واحدة أو دائرة واحدة , بل تعددت دوائر الصراع , و لعل أكثر
ما يشل دينامية الصراع داخل المجتمع، تلك التفرعات الناجمة عن تناقضات داخلية
طبيعية كانت أو مصطنعة , فليس من معوقات التغيير مثلا الاختلاف العقائدي أو المذهبي
بين فئات الشباب , بل يمكن أن يكون التواصل و في غيابه أساسا تشويش على الرؤية و
هو ما يسهل اختراق الدوائر لبعضها، أوليس
الخصم الحقيقي للتغيير تلك القوى المقاومة له، بدءا من الأعيان و فلول المتمصلحين و
دوائر المخزن المستفيدة من غياب رقابة مجتمعية، إن ما نراه اليوم من اصطفافات
غريبة و خصوصا لبعض الفئات الشابة المتحولقة حول هذا الاسم أو ذاك من وجوه النخبة التقليدية، يضع في
الميزان جدية الاعتقاد لدىتلك الفئات في مشروع التغيير أي في ممكنات التغيير . إن
عيوب النخبة التقليدية تركزت في تخندقها في المقاومة و التصدي لأي فكر أو مشروع لا
يمنحها وضع الظهور في الواجهة، و صارت تعيث فسادا في كل مناح جسد المجتمع فخلقت
الجمعيات الصورية و شكلت أحلافا انتخابية فاسدة, و أرست في المجتمع قواعد الإفلاس
الحتمي بتشجيع الرشاوى و الزبونية و
المحسوبية و إشاعة الممارسات الواطية الماسة بالأعراض و الأخلاق , حتى صارت كأنها
غريبة عن المجتمع أو مستقدمة خصيصا لتخريبه ,
أوليست مهازل دفع شيكات بمبالغ خيالية خير دليل على إفلاسها . إن الصورة
القاتمة تلك تظل المبرر الكافي الذي يدعم ممكنات التغيير , فمتى ما كان المواطن
البسيط يعي أن له حقوقا يمتنع عن وضعها موضع مساومة , كبطاقة الإنعاش , أو صفة
العامل الموسمي , أو الإعانات الرمضانية , و يتعفف عن قبول الرشاوى أو الهبات التي
تمنح بمناسبة الانتخابات في الدخول المدرسي أو عيد الأضحى، سيكون شوط كبير في
الطريق للتغيير قد قطع , لكن أليس المجتمع المدني مطالب بدعم صمود الجماهير و
تعبئتها لأجل انتزاع حقوقها و التي هي لها و لا يمكن أن تساوم عليها .
يبقى
تجاوب المجتمع رهينا بمصداقية من تعاهدوا معه من الشباب على قطع دابر الفساد و
المجتمع حي يرى و يسمع بل و يعيش الأحداث و الوقائع التي تعتمل في صلبه , فمتى ما
كان تطعيمه فعالا و صلاحيته لم تنته ,
انتصر على كل الجراثيم التي تحاول الاقتراب، والتطعيم الوحيد الناجع هو
يقظة و جاهزية الشرفاء من أبنائه .