أسا بريس: الصحراء الآن
كبرت مدينة العيون عن ذي قبل و إتسعت شرقا وجنوبا , و باتت الحاجة ماسة لتطوير قطاع النقل . جاءت البشرى –" كما العادة" – من المجلس البلدي للعيون والذي تعاقد مع شركة ال الجماني " الكرامة " . من باب العرفان بالجميل , الفكرة كانت في محلها و في وقتها لتخفيف معاناة القاطنين بالأحياء البعيدة و الذين يقفون لساعات للحصول على وسيلة نقل تقلهم إلى بيوتهم. كل ذلك سبقه حرص المجلس البلدي الموقر على تنظيف المدينة وتزيينها ليلا بالنافورات, بالطبع لأن الصحراويين أصلا متهمون بالكسل والخمول مثل مستعمريهم السابقين الإسبان و لا هم لهم سوى التسكع ليلا و لن يستيقظوا باكرا ا ليروا الفارق بين مدينة تعج بالتناقضات و الصراعات نهارا فيما تكسى أحلى الثياب و تتجمل بأحلى الأضواء و أبهاها ليلا.
مدينة العيون شكلا وصورة ترفل في النعيم و ينعم سكانها بالرعاية المتواصلة لبعض المنتخبين الذين لا يكفون عن التذكير في كل مناسبة بأياديهم البيضاء ( بالبقع الأرضية التي لا تزال مثار جدال حول قانونيتها ) على الجميع بمن فيهم الأعداء قبل الأصدقاء. لكن هل تكفل هذه النعم كرامة و حقوق الصحراويين؟ و هل تكفي لإقناع المنظمات الدولية خصوصا تلك ا المختصة بالجانب الحقوقي – وقبل أيام حل المبعوث الأممي السيد روس بالمنطقة في زيارته الثانية – بما تحقق على أرض الواقع من إلتزام واضح للدولة بتمتيع الصحراويين بكل حقوقهم ؟.
قبل أشهر معدودة , زار وفد من مؤسسة كينيدي الأمريكية مدينة العيون وذكرت المؤسسة في تقريرها الأولي بأن الصحراويين يعانون من القمع و كبت الحريات الذي تمارسه السلطات المغربية .كما سبق للمبعوث الأممي بأن إلتقى بمجموعة من الفاعلين المحليين المؤيدين للأطروحة المغربية و نشطاء حقوقيين يتبنون أطروحة جبهة البوليساريو في زيارته الأولى و هذا ديدنه في جولته الثانية "المكوكية " .
من باب اللباقة و الكياسة طبعا يحرص المبعوث الأممي على أن يتسم بالحياد من خلال الإنفتاح على كافة الفاعلين المحليين أولئك الذين يتبنون رؤية جبهة البوليساريو و أولئك الذين يؤيدون الأطروحة المغربية , غير أن نظرة الطرفين لحقيقة الوضع بالصحراء مختلفة تماما , و يحاول كلا الطرفين إقناع المبعوث الأممي والمنظمات الدولية التي تهتم بالوضع الحقوقي بالمنطقة عبر رسم صورة تتلاءم و الخلفية السياسية التي تميز كليهما عن بعض .
و لا غرو بأن يكون خطاب المؤيديين لأطروحة الدولة المغربية مليء بالشعارات المستهلكة أصلا من طرف المسؤولين المغاربة و من الإعلام المغر بي و التي يعرف الصحراويون بأنها مجرد قفازات لإخفاء ما إقترفته أيادي البعض من الصحراويين الإنتهازيين من أعيان و منتخبين و غيرهم , من عبث و فساد في حق الصحراء أرضا و شعبا . و الغريب بأن هذه الشعارات لا يمكن تنطلي على الزائرين للمنطقة الذين تأكدوا عقب ملحمة أكديم يزيك الشهيرة بأن الوضع بالصحراء الغربية سيء للغاية على مستويات عدة و لعل من أبرزها المستويين الإجتماعي و الحقوقي , لكن الأكثر غرابة هو إصرار السلطات الرسمية على التذكير المستمر بأفضال المغرب على أهل الصحراء و إعطاء صورة بهية عن مؤشرات التنمية بالأقاليم الصحراوية بما حرص الدولة على توفير الشغل و إنشاء مشاريع و أوراش كبرى لصالح ضمان الحياة الكريمة للصحراويين .
و لقد إنتابني الإحساس بالمرارة و الإستغراب الشديد حين كان يلملم الصحراويون جراحهم بعد مأساة كديم يزيك و التدخل الهمجي لقوات الأمن و أبناء أقاليم الشمال المقيمين بالعيون في حق مدنيين عزل أبرياء لا ناقة لهم ولا جمل كما يقال , برز بعض المرتزقة من الأعيان وشيوخ القبائل في وسائل الإعلام الرسمية المحلية و الوطنية لترديد الخطابات الجوفاء و الفارغة من أي محتوى حقيقي يعكس الواقع كما هو . و أنا أتابع كلامهم عن ما تحقق بالأقاليم الصحراوية من تنمية و إزدهار إقتصادي و إجتماعي و ما تقوم الدولة المغربية من مجهودات جبارة لتوفير الأمن و العيش الكريم لأهل الصحراء , تذكرت الملكة ماري أنطوانيت زوجة الملك لويس السادس عشر و الذي أطاحت به الثورة الفرنسية في أواخر القرن الثامن عشر . و قفت الملكة سليلة الحسب و النسب مشدوهة أمام ثورة الفرنسيين ضد الحكم المطلق لزوجها , و كان سؤالها الغريب عن ما الذي دفع هؤلاء للثورة على النظام المكي آنذاك , و حين أجابوها بأن الثوار الفرنسيون جياع و يريدون خبزا , قالت " لما لا تعطوهم كعكا " , و الحال نفسه مع أعيان الصحراء صنيعة الدولة المغربية الذين "بشمن" ( التخمة الزائدة عن الحد " و امتلأت قصورهم ومنازلهم بما لذ و طاب من الأطعمة فكان موقفهم السلبي من خروج مجموعة كبيرة من الأسر الصحراوية إلى نواحي مدينة العيون للتعبير عن مشاكلهم الاجتماعية خير دليل على بعدهم عن الواقع و زيف إدعاءاتهم بتمثيل المجتمع الصحراوي بكافة أطيافه .
لا أريد أن يتهمني البعض بتحاملي على الأعيان و المنتخبين والشيوخ و محاباتي للناشطين الحقوقيين , لكنني أحاول فقط بأن أشخص حالة الساحة السياسية بالصحراء و كشف طرق عمل اللاعبين الأساسيين فيها. هناك من يقدم الدلائل و البراهين الساطعة على ما أقدمت عليه الدولة المغربية من جرائم يندى لها الجبين ضد الصحراويين كالتعذيب و الإعتقال التعسفي و التفريق بين أبناء الأسرة الواحدة , و هناك من يركب حنجرة الببغاء ليردد كلام المسؤولين . و السؤال أين موقع الإنسان الصحراوي البسيط من كل ذلك ؟ للأسف لا يزال بعض الصحراويين يدينون بالولاء المطلق لفئة من مرتزقة الأعيان والمنتخبين الذين عاثوا فسادا في البلاد , كيف يقدم البعض على مساندة هؤلاء في حملاتهم الإنتخابية , كيف يمكن أن نتحدث عن شعب يريد أن يقرر مصيره بنفسه وهو يهرع إلى صناديق الإقتراع من أجل الحصول على حفنة من المال ؟ ما السبيل إلى الخروج من النفق المسدود و الكثير من الصحراويين يتملقون و يلحسون حذاء من كانوا – ولازالوا – مطية بيد الدولة المغربية لنشر الشتات و الفرقة بين القبائل الصحراوية التي كانت فيما مضى على قلب رجل واحد ؟.
خطوة صغيرة و بسيطة تفصلنا عن تقرير مصيرنا بأيدينا دون إنتظار المجتمع الدولي الغارق في سبات طويل : عصيان مدني و مقاطعة تامة لكل من يزيف الحقائق و يركب صورا مزيفة حول حقيقة الوضع بالصحراء , لابد من أن يقف الشباب خصوصا بالمرصاد للزعامات التقليدية بالمنطقة التي جرت الويلات على الصحراويين , لا بد من طرح ميثاق شرف بين جميع الصحراويين الغيورين على أهلهم و ذويهم وبلدهم لمقاطعة هؤلاء و التنديد بكل خرجاتهم و شطحاتهم المؤيدة للأطروحة المخزنية القمعية.
" الكرامة" الحقيقية هي الوسلية القادرة على أن تنقلنا إلى بر الأمان حيث التوافق بين جميع أطياف المجتمع الصحراوي و حيث يستطيع الصحراويون العيش بأمن و سلام بأرضهم و الإستفاذة من خيراتهم بعيدا عن طمع الطامعين وجشع الأعيان و المنتخبين و شيوخ القبائل.