» » في التربية على القيم من خلال الامثال الحسانية


بقلم : بوزيد الغلى

تحاول هذه الدراسة أن تضع عبر الاستقراء صُوى ومعالم عامة تتَكَشفُ من خلالها الخيوط المشكلة لسدى نسيج الخطاب التراثي الحساني حول قضية التربية على القيم ، كما تحاول   إثبات تأثيل أدب الأمثال الحساني أسس التربية بوصفها :" نظام اجتماعي ينبع من عقيدة الأمة وفلسفتها في الحياة ، ويقوم على إبراز تلك العقيدة أو الفسلفة إلى الوجود بغرسها في عقول ونفوس أبنائها " 1.
وتأسيسا على ذلك ، فإن عماد هذه الدراسة محاولة استنباش و استخراج دفائن ومكنونات الأمثال الحسانية الحاملة بين ثناياها فلسفة المجتمع* الأهلي الحساني التربوية التي تمتح إلى أبعد الأمداء من المنظومة القيمية الإسلامية كما سنرى . و قوام هذه المحاولة المبنية منهجيا على استقراء وتتبع طائفة من الأمثال الحسانية واستنطاق مدلولاتها ومعانيها بشيء من التوسع المفضي إلى تحديد وتحليل مقاصد الخطاب الكامن منها والظاهر . وقد حرصنا في سبيل بلوغ هذا المرام على تشكيل أضمومة أو أجموعة من الأمثال الدائرة حول المحاور الآتية :
أولا : الخطاب حول إعداد العنصر البشري
ثانيا: الخطاب حول القيم الأخلاقية السلية والايجابية
أولا : الخطاب حول إعداد العنصر البشري
إن المتتبع للخطاب الذي تنطوي عليه الأمثال الحسانية باعتبارها خلاصة مركزة مكثفة للتجربة والخبرة الفردية والجماعية ، يستشف  تناولها للفرد من زاويتين:
أولاهما : إدراك الأمثال الحسانية للفرد بوصفه كائنا بيولوجيا .
ثانيهما : إدراك الأمثال الحسانية للفرد بوصفه كائنا اجتماعيا .
1 .إدراك الأمثال الحسانية للفرد بوصفه كائنا بيولوجيا
إن تأمل بعض الأمثال الحسانية تأملا يتجاوز اللفظ إلى القصد والقِشر إلى الجوهر ، يفضي إلى استخلاص قاعدة تصورية تصدر عنها ، وهي إدراك الإنسان بوصفه كائنا بيولوجيا يحمل الخصائص الوراثية لأسلافه وأصوله ، يشهد لذلك المثل الحساني الآتي : السر يصول إلى سبع أصول أي أن الوراثة البيولوجية تمتد إلى سبعة أسلاف.
1_1) اللبن جبّاد أي أن اللبن مؤثر جلاب حمال للخصائص الوراثية  ، إذ أن الرضاع ناقل للكثيرمن الخصائص الخِلقية ( بدانة _ نحافة ...) والخُلقية ( دماثة _ دناءة ...) ، و قد حذر  المعصوم عليه السلام من غوائل رضاع الغيل بقوله : " إن الغيل ليدعثر الفارس عن فرسه " 2، و قد أدرك بعض فقهاء المسلمين بحذقهم العلمي أن خطورة بعض الرضاع الفاسد لا تكمن في آثاره على التكوين الجسمي بل تتعداه إلى آثاره على التكوين الخلقي والتربوي للفرد ، فحثوا على وجوب اختيار الأم والظئر ، و أجازوا فسخ إجارة الظئر ( المرضع ) إذا كانت سيئة أو بذيئة الخلق ، و قد علل ابن نجيم الحنفي هذا الحكم تعليلا معقولا مقبولا حيث قال : " و كذلك إذا كانت فاجرة بيِّنا فجورها ، فيخافون على أنفسهم ، فهذا عذر ،  لأنها تشتغل بالفجور ، وبسببه ينقص قيامها بمصالح الصبي ، وربما تحمل من الفجور ، فيفسد ذلك لبنها " 3 .
إن هذا التعليل الجميل ينطوي على فائدة ذهبية أثبتها الطب الحديث ، تتمثل في احتمال أن تشوب لبن المرضع لوثات أو بكتريات الأمراض المعدية ، ونظرا لأهمية الرضاع السليم من كل شائبة في بناء الجسم السليم نجد المثل الحساني يشبه دوره في حفظ الصحة وتقوية مناعتها بدور الدباغ 4في طرد بكتريا العفونة ، فقد درج الحسانيون على القول :
لبن ولد آدم دباغو : تفصيحه : أن لبن الرضاع بمثابة الدباغ للجلد يقيه الفساد والعفَن ، ومفهومه أن الرضاع الطبيعي يؤمن غذاء طبيعيا كاملا  يقوي مناعة الرضيع ويحصِّنه  من كل عدوى محتملة قد تنتقل من لبن غير مأمون المصدر .
2_1) كلها يرجع لَصلُو : تفصيحه أن الفرد يرجع لأصله ، ولا مراء في  أن للنسب أهمية بالغة في الثقافة الحسانية لاتقِل عن مركزه في الثقافة العربية الاسلامية التي أسست قواعد عديدة مرتبطة بالنسب تتصل بقانون الاسرة بناء وتملكا ...، ويفهم من منطوق المثل الآنف تبعية الفرع للأصل تبعية ينشأ عنها  :
_ أن الولد في الثقافة الحسانية ينتسب للأب ويتخذ إسمه العائلي خلافا لبعض الثقافات التي يتم فيها الانتساب للأم كصنهاجة مثلا ، وحتى اذا تنكر الولد لأبيه ، فانه يستنكف عن الانتساب لأمه ، وقد قيل أن أحد أبناء أمراء بني حسان غضب من والده وأنشد : الى ريتو ظليم بارْك ويِزيم ***ذاك براهيم ولد براهيم
تفصيحه : إذا رأيتم ظليما أي ذكر النعامة وقد برَك أو وجم ، فذاك ابراهيم بن ابراهيم أي أنه نسب نفسه لنفسه حتى لا ينتسب لأبيه أو يعيِّره غيره بانتسابه لأمه .، و تلك مسألة لا يتساهل فيها أهل الصحراء الذين درجوا على تعليم أبنائهم أن الطفل " يتبع الظهر ولا يتبع الكرش "، أي أن الولد يتبع الصلب الذي خرج منه ، وليس الرحم التي كانت له حِواء ووِِطاء وغِطاء قبل استهلاله .
_ أن الولد في الثقافة الحسانية يحمل الخصائص البيولوجية لأسلافه لأن العرق نزاع ، فكما قال الأعرابي للرسول عليه السلام حين سأله عن الإبل تولد من فحل واحد ولا تتشابه ألوانها ، فتجد فيها الأورق والأسود : لعله نزعه عرق ، فان الثقافة الحسانية قد امتحت هذا المعنى ، فأصبح شائعا جاريا على طرف كل لسان أن :
_ يكثر الحديث في المجتمع الحساني عن تأثير الأخوال في تكوين الولد الخلقي والخلقي أحيانا ، فيقال مثلا : فلان مستخول أو استخول ، أي غلب عليه الشبه لأخواله ، ويفسر ذلك بقوة تأثر الأم بأبيها أو أخيها وإيثارها لهما ، إذ يقول القول السائر : لْمْرا تحزْم بوها ولا خوها 5 ، أي انها تتأثر بأبيها وتُؤْثِر أخاها .
 _ يتعدى تأثر الولد بأصوله وأخواله نطاق الخصائص الفيزيولوجية إلى المناحي الأخلاقية ( ethical ) ، ولذلك يكثر في التداول اللساني الحساني التأكيد على تأثر الشخص بوسطه الأسري أو العائلي ، اذ يكتسب كثيرا من أخلاق وقيم عائلته ، فاذا  كان سليل بيت شرف طيب الأرومة نُعت بولد الخيمة الكبيرة الذي مهما نزا به الطيش ونزق الشباب ، فانه لا يلبث أن يستقيم حاله تشبها بأسلافه، ولذلك درج الحسانيون على القول : " أولاد لخيام لكبارات ما يخيبوا " ، والمثل الحساني يقول : " لعظام لغلاظ ما يركو " ، تفصيحه أن العظم الغليظ لا يُرقق ، ومفهومه أن من انحدر من أصل كريم لا يقبل منه فعل دنيء . ونظرا لكون الأحكام في مجال الاجتماع الانساني نسبية أو أغلبية وليست مطلقة وعامة ، فإن المثل الحساني يقيم وزنا ثقيلا للتربية والتنشئة تغليبا لها على  النسب والأصل البيولوجي في تشكيل الشخصية و اكتسابها للقيم والأخلاق ، وفي هذا الصدد يمضي المثل القائل :" الطبع أخير من لَصْل " أو "التربية أخير من لَصْل " ، تفصيحه أن التربية خير من الأصل أي الحسَب .
وبالرغم من أوْلوية تأثير التربية على الفرد ، فان الأمثال الحسانية لا تنفك تحتفي و تمجد الحسب والنسب باعتباره مبعث الافتخار ، ولذلك ينعت ذو الحسَب الطيب بأنه ليس مقطوعا منبتا لا أصل له ولا فصل ، فيقال : ما هو مكطوع من اجْدْر6 أو من صَدرة ( أي شجرة ) . ولا شك أن لصراحة ووضوح النسب فائدة جمة من الناحية الاجتماعية ، إذ تقي من شرور اختلاط الانساب من جهة ، وتؤمن اختيار العِرق الطيب ، وذلك لأن العرق دساس كما ثبت في الحديث النبوي ، وقد أشار الشاعر الى مثل هذا المعنى بقوله :
فأدركته خالاته فاخْتزلنَه **** ألا إن عرق السوء لا بد مُدرك
وفضلا عن ذلك ، فان معرفة النسب تبعث في  النفس  الطمأنينة والاستقرار ، أما الجهل به أو الارتياب في نقائه  فيزرع الحيرة والقلق النفسي والوجودي الذي قد يؤدي الى الاكتئاب واليأس المفضي أحيانا كثيرة الى الانتقام من النفس ( الانتحار ) أو من المجتمع ( الإجرام) .
3_1) ألاّ خَلاّه ولاَّ رباّه : تفصيحه : إما أنجبه وإما رباهُ وأدَّبه .
انسجاما مع ماسبق ذكره ، فان هذا المثل المركب من  جزئين على سبيل التنويع ، يميز في التنشئة المؤثرة في تشكيل الشخصية بين مصدرين هما :
أ _ الوراثة ( الانجاب ) _ أنجبه ( خَلاَّه)                   ب _ التربية ( ربَّاه)
وغالبا ما يضرب هذا المثل في سياق المدح إذا صنع الشخص معروفا أو أحسن قيلا فاستحق ثناء جميلا ، كما يرِد أيضا في مقام القدح تعييبا أو تعييرا لشخص بسوء فعله ، إذ ينسب اكتسابه سوء التصرف إلى منبته أو أصله أو فساد تربيته ، وهذا مورد المثل القائل ( شَوْفْت الشيْن عْلَ بوه أي أن القبيح يرث القُبح من أبيه 7 .
2       ) إدراك الأمثال الحسانية للفرد بوصفه كائنا اجتماعيا
بالتوازي مع إدراك الفرد بوصفه كائنا يتأثر بصفات أسلافه الخُلقية و الخِلقية ، نلمس في الأمثال الحسانية خطابا يؤصل للنزعة الاجتماعية للفرد ، وذلك انطلاقا من تأثيل مفهوم الأسرة الممتدة لا النووية ، باعتبارها تمثل سدى النسيج المجتمعي المتماسك والمتضامن في السراء والضراء .
واعتبارا لدور الأسرة في بوصفها نواة المجتمع الأولى ، فان الخطاب التراثي الحساني طافح بالأمثال الحاضة على العناية بالأسرة بدءا من حسن بنائها مرورا بتنظيم العلاقات بين أفرادها وانتهاء بمساهمتها في البناء الاقتصادي والاجتماعي باعتبارها حجر الزاوية في المجتمع ، إذ أن الأسرة بمثابة مصنع ا لأجيال ، ولا يتصور أن ينطلق المرء في الأرض تعميرا وانتاجا وتفاعلا مع الغير دون كنف اجتماعي يعلمه أصول التعامل والتعايش . ولكيلا نطيل ، فان مدار الكلام سيتركز على  الآتي
أ_ مركز الأسرة في أدب الأمثال الحسانية :
يمكن إدراك أهمية مركز الأسرة في الخطاب الحساني من خلال تأمل المساحة اللائقة التي شغلها الحديث عنها من حيث الحث على المسارعة الى البناء  مرورا بتخصيص حيز هام للحديث عن العلاقات بين أفرادها أصولا وفروعا وحواشي ، وانتهاء بربطها بالتملك تمهيدا للكلام عن وظيفتها الإنتاجية والاقتصادية . ولعل ذروة ما تنبغي الإشارة إليه هو أن الخطاب الحساني يطلق على الأسرة لفظ الخيمة بدلا من لفظ العائلة المستخدم حديثا في اللسان الحساني ، وذلك لأن لفظ الخيمة يتسق مع الطبيعة البدوية وثقافة الرحل ، وهي في تقديري ثقافة أخبية لا ثقافة أبنية 8 ، ومفهوم الخيمة يحيل على الوسع والامتداد المناسب لمفهوم الأسرة الممتدة أو الموسعة ، خلافا لمصطلح العائلة ذي المنحى الاقتصادي المحيل على الحاجة والعول9 ، ونظرا لأهمية الخيمة في التداول اللساني وكذا المخيال الشعبي الحساني ، فإنها تعد مقياسا للتراتب أو التباين الاجتماعي وجاهة و دناءة ، وقد مر معنا المثل المشيد بولد/ سليل الخيمة "لكبيرة " في مقابل ولد الخيمة "لْكصيفة " المنعوت بصفات الدناءة بخلا وشحا وانعدام أو انخرام مروءة .
ب _ بناء الخيمة / الزواج

تساوقا مع إطلاق لفظ الخيمة على الأسرة ، يطلق الخطاب الحساني على تأسيس الأسرة لفظ بناء الخيمة ، والبناء بمعنى النكاح مصطلح عربي أصيل أطلقه الحسانيون على بناء الأسرة مجازا ، والقرينة بين الحقيقة والمجاز أن البناء العروس أو الدخول بها يتم في خيمة مخصصة للعريسين تبنى  بعيدا نسبيا عن " لفريك "، وهو مجموع الخيام 10 ، ولهذا تسمى بخيمة الرك / الرق إشارة إلى نصبها في الرقاق ، مع ما تحيل إليه جغرافيا المكان من خلاء يساعد على الخلوة المطلوبة .
واتساقا مع طبيعة إدراك الفرد باعتباره كائنا اجتماعيا لا انفكاك له عن بيئته الاجتماعية ، فان الأمثال الحسانية تحض على الإسراع بالزواج ، ولا تعتبر التأخر في إنفاذه مفيدا ، حيث يقول المثل الحساني : كل توخيرة ( أو استاخيرة أي تأخير ) فيها خيره ، كون الحرث والتتهيلة ( أو التأهيلة / الزواج) ، تفصيحه أن كل الأمور قد يكون في تأخيرها خير ما عدا الزواج ( التأهل ) والحرث ، وذلك لأن تأخير الحرث يؤدي الى خلل اقتصادي من جهة والى خلل طبيعي يضعف خصوبة الأرض البوار من جهة أخرى  ،  أما تأخير الزواج فقد يؤدي إلى مخاطر تهدد الاستقرار النفسي للفرد نتيجة العنوسة مثلا ، و تهدد الهرم الاجتماعي بالشيخوخة ، وإذا شئنا التوسع في هذا المعنى ، فنلامس روعة الربط بين الحرث والزواج باعتبار كل منهما يثمر خِلفة 11 ، وكما يشعر الفلاح لفرح والامتلاء عندما تنتج أرضه غلة جيدة ، فان الإنسان أيضا يشعر بالامتلاء والامتداد عندما يرزق خليفة ( رب لاتذرني فردا وأنت خير الوارثين ) *.
وانسجاما مع الآداب المرعية في الثقافة الحسانية المحتفية بالنسب والحسب ، فان الأمثال الحسانية تقدم شرف وصراحة النسب على غيره من المعايير والمواصفات في اختيار الشريك ، وذلك اعتبارا لكون النسب يعد قيمة ثابتة لا تتقدم على الجمال  بوصفه قيمة متحولة متغيرة كما يفهم من هذه الأمثال :
_ شوف الساس أما الزغب يَنْساس ، تفصيحه : أنظر الى الأساس / الأصل ، أما الشعر فيمكن أن يتساقط .
_ اللي بْغا الزين راهو في الدّفلى ، تفصيحه : من يريد النظار ة والخضرة فليعمد إلى نبات الدفلى المعروف بجمال منظره وقبح ومرارة مذاقه أو طعمه 12.  
ج _ ارتباط الأسرة بالتملك :
من اللافت للانتباه أن العناية ببناء الأسرة في نطاق الخطاب الشعبي الحساني تبلغ مداها عندما تربط الأمثال الحسانية استحقاق التملك بوجود الأسرة  ، فاذا كانت النظرية الاشتراكية قد ربطت الملك بالانتاج : لكل حسب عمله ، لكل حسب حاجته ، فان التملك حسب منطوق بعض الأمثال الحسانية لا يرتكز على قاعدة مادية إنتاجية بحتة  بقدر ما يستند إلى قاعدة تنموية بشرية ، تقوم على أساس أن الرأسمال البشري مقدم على الرأسمال الاقتصادي ، ولتقريب هذا المعنى بأمثلة تطبيقية ، فلنتأمل المثل الحساني الآتي :
اللي بلا خيمة بلا كرعة فالتراب ، تفصيحه من ليست لديه أسرة ( أعزب) ، فلا سهم و لا نصيب له من قسمة الأرض .
والحاصل :  وجود الخيمة / الأسرة = حق التملك

واذا شئنا التوسع في استكناه الدلالات الثاوية في هذا المثل ، لاحت أمامنا دلالات نفسية اجتماعية وأخرى اقتصادية .
  • الدلالة النفسية و الاجتماعية: إن بناء الأسرة / الخيمة ينطوي  ويهدف الى بلوغ غايات نفسية من قبيل السكن النفسي والطمأنينة فضلا عن الرغبة في تكثير السواد ، وفي تقديري ، فان التشوف إلى الإنجاب يستبطن رغبة باطنية متمثلة في التعويض عن الفناء المحتوم والمحسوم بالموت ، إذ أن الأبناء يمثلون استمرارا لوجود آبائهم بعد الفناء ، ولذلك جبل الآباء على حب الأبناء باعتبارهم كيمياء الشعور بالامتداد والخلود الرمزي بدليل المثل الحساني القائل :" اللي خَلََّف ما مات " ، أي من ترك خلفا له ، فكأنه لم يمت . وعطفا على ذلك يمكن أن نتفهم عمق المعاناة والجزع الذي يتكبده العقيم أو العاقر ، اذ أنه يشعر بضيق الدنيا رغم سعتها ، وبالغربة والوحدة رغم كثرة من فيها من البشر ، فهذا داود عليه السلام يدعو ربه أن لا يذره وحيدا من غير نسل لاحق به ( رب لا تذرني فردا وأنت خير الوارثين )، ولعل هذا الشعور بالوحدة هي التي أنتجت أمثالا تطفح بمشاعر الخيبة واستشعار السلبية من قبيل : لُوحيد ما عندو ما يريد " . أي أن الوحيد فاقد الإرادة ، بل إن الشعور بالامتداد بوجود الولد ، والشعور بالوحدة عند انعدامه لا يبقى حبيس تجاويف الفؤاد ، بل ينعكس على مرآة واقع الأسرة ، وخاصة وضع المرأة العاقر التي تتهددها رياح التسريح  كالخيمة الخالية من أوتاد تعصمها  من الريح على حد تعبير المثل القائل : " لمرا بلا أوتاد كِيف الخيمة بلا أوتاد " .
  • الدلالة الاقتصادية : تتبدى الدلالة الاقتصادية التي يستضمرها الحديث الآنف الذكر من خلال معرفة قصة ورود هذا المثل ، وهي أن قبيلة موريتانية كانت تعاني من ضيق مجالها الترابي قياسا الى عدد النسمات الموجودة بها ، فارتأوا تقسيم الأرض على أساس قاعدة " لكل حسب وضعيته الاجتماعية / رب أسرة / بناء الخيمة " ، فلا يستحق نصيبا من قرعة قسمة الأرض إلا من يتحمل مسؤولية رعاية وإعالة أسرة ، اعتبارا لحاجته التي تفوق حاجة الأعزب / غير المحصن . ويبدو هذا المعيار منطقيا اذا استحضرنا قضيتين :
_ أولاهما : ان من مقاصد هذا التقسيم الرغبة في تشجيع الزواج وتكثير خلايا المجتمع ، وذلك بتقديم حوافز من قبيل اعتماد تقسيم وحيازة الأرض لتأمين السكن على أساس مبدإ الإحصان .
_ ثانيهما : طبقا لقاعدة الغنم بالغرم ، فان الاستفادة من بعض الامتيازات وفق العرف السائد لدى كثير من قبائل الصحراء تقابلها قسمة التضحيات والتبعات ، وقد جرت العادة على أن يتم التقسيم غُنما أو غُرما على أساس الوحدات الاجتماعية سواء سميت : خيام بمعنى أسر كما تقدم في المثل السابق ، أو سميت " كوانين " كما هو الحاصل عند بعض القبائل الصحراوية كقبيلة أيتوسى التي اعتمد دولاشابيل في إحصاء عددها على ما يسمى بالكوانين وهي الأسر المكونة من وزجين . واعتقد أن مصطلح الكانون ذو معنى اقتصادي أيضا ، اذ يطلق محليا على " الأثافي " أي الحجارة التي توضع عليها القِدْر .


1   أزمة التعليم المعاصر وحلولها الاسلامية _ زغلول راغب النجار _ منشورات المعهد العالمي للفكر الاسلامي . الطبعة الاولى 1990 . ص 131
*  " إننا نستطيع بسهولة اكتشاف طبيعة الشعب وذكاءه عن طريق الامثال ، فهذه الأمثال تمثل فلسفة الجماهير " ابراهيم أحمد شحلان _الشعب المصري من خلال أمثاله العامية "_ الهيئة العربية العامة للكتاب . القاهرة 1972 ص 3 .
2   وفي الحديث : لا تقتلوا أولادكم سرا ، إنه ليدرك الفارس فيدعثره ; أي يصرعه ويهلكه يعني إذا صار رجلا ; قال : والمراد النهي عن الغيلة ، وهو أن يجامع الرجل المرأة وهي مرضع فربما حملت ، واسم ذلك اللبن الغيل ، بالفتح ، فإذا حملت فسد لبنها ; يريد أن من سوء أثره في بدن الطفل وإفساد مزاجه وإرخاء قواه أن ذلك لا يزال ماثلا فيه إلى أن يشتد ويبلغ مبلغ الرجال ، فإذا أراد منازلة قرن في الحرب وهن عنه وانكسر ، وسبب وهنه وانكساره الغيل  - أنظر : لسان العرب – ابن منظور – مادة دَعثر .
3  البحر الرائق _ ابن نجيم الحنفي _ ج 8 ص 26
4    ورد في مسند الامام أحمد في هذا المعنى عن عائشة أن الرسول عليه السلام سئل عن جلود الميتة فقال : " دباغها طهورها " .
5  إذا علا ماءٌ الرجل ماء َالمرأة أشبه الولد أعمامه ، وإذا علا ماء المرأة ماء الرجل أشبه الولد أخواله .
6  انظر معنى هذا المثل في كتاب : " الأمثال الحسانية  " بكار ولد احمدو ص 147
7  أنظر كتاب : الامثال الحسانية _ بكار ولد احمدو ص 77
8  لمزيد من التوسع والاطلاع ، يرجع الى مقالنا المنشور بجريدة صحراء بريس وصحيفة لكم الالكترونيتين تحت عنوان : منع نصب الخيام : ثقافة الأخبية في مهب السياسة .
9  أنظر لسان العرب _ مادة عال .
10  أنظر : الشفهي والبصري في الموروث الأدبي والجمالي الحساني _ ابراهيم الحيسن _ منشورات وزارة الثقافة _ 2010 ص 136
11  نلمس هذا الربط المفعم بالدلالة في قوله تعالى : نساؤكم حرث لكم " _ سورة البقرة _ الآية 223
*  سورة الأنبياء _ الآية 89
12  يتفق معنى هذا المثل مع مراد الحديث : إياكم وخضراء الدمن . قالوا وما خضراء الدمن يارسول الله ؟ قال : المرأة الحسناء في منبت السوء .

كاتب المقال Unknown

حول كاتب المقال : قريبا
«
Next
رسالة أحدث
»
Previous
رسالة أقدم
التعليقات
0 التعليقات

ليست هناك تعليقات:

دع تعليقك