عبد الباري عطوان
من المعروف ان الاجهزة الامنية الامريكية مثلها مثل جميع نظيراتها الغربية، تحرص على توثيق معظم الاحداث التاريخية الهامة، وتحفظها في ارشيفاتها، وتسمح بالاطلاع على تفاصيلها لكل باحث، وفق قانون حرية المعلومات، ولكن هذه القاعدة لا تنطبق على زعيم تنظيم “القاعدة” الشيخ اسامة بن لادن والظروف التي احاطت بعملية اعتقاله ومن ثم اغتياله في منزله بمدينة أبوت اباد في باكستان في شهر ايار (مايو) عام 2011؟
فحتى هذه اللحظة لم نشاهد اي صورة لجثمان الشيخ الراحل ومن قتلوا معه، ولم يتم السماح لابنائه وزوجاته الذين كانوا معه لتقديم روايتهم عما حدث في تلك الليلة التي جري فيها الهجوم المباغت من قبل “وحدة العجول” الخاصة، فقد جرى نقل هؤلاء، وبعد اعتقالهم لعدة اشهر في باكستان، تحت ذرائع متعددة، من بينها دخول البلاد بطريقة غير مشروعة، ومخالفة قوانين الاقامة، وعندما تم السماح لهم بمغادرة باكستان الى المملكة العربية السعودية، حيث يقيمون حاليا في مدينة جدة، جرى منعهم من الكلام والاتصال بالصحافة بالتالي.
***
قبل عامين، استوقفني في احد شوارع مدينة لندن شاب وسيم، وقدم لي نفسه على انه عبد الله ابن اسامة بن لادن، واظهر بطاقته الشخصية التي تؤكد هذه الحقيقة، وكان في قمة التهذيب ودماثة الخلق، وكان اللقاء مفاجأة سارة بالنسبة الي، لاني اعرف عنه واسرته الكثير، وكان هو باعتباره النجل الاكبر للشيخ الراحل، الذي اشرف على رعاية الاسرة عندما كانت في باكستان تحت الاقامة الجبرية، ورتب سفرها الى مدينة جدة.
حاولت ان اعرف منه بعض التفاصيل عما حدث في “ابوت اباد” وعميلة الاغتيال، فلا بد انه يعرف الكثير من اشقائه وشقيقاته وزوجات والده، ولكنه اعتذر بأدب شديد عن الاجابة، وافترقنا والابتسامة مرسومة على وجهه، وتحمل معاني كثيرة ملخصها انه لا يريد الحديث، لاسبابه، وربما تجنبا للمشاكل، تماما مثلما هو حال جميع اشقاء الشيخ بن لادن الذين حاولت الاتصال بهم عندما كنت اجمع المعلومات لكتابي الاول “التاريخ السري للقاعدة”.
الادارة الامريكية قدمت لنا اشرطة مصورة عن كيفية اعتقال الرئيس صدام حسين، مثلما فعلت الشيء نفسه لوقائع عملية اعدامه، وولديه من قبله عدي وقصي، ولكنها لم تقدم صورة واحدة ولو من بعيد للهجوم المذكور على منزل الشيخ بن لادن، او عملية دفنه في البحر وفق الشعائر الاسلامية، حسب ما اكد ليون بانيتا رئيس وكالة المخابرات المركزية الامريكية “سي اي ايه” ووزير الدفاع السابق في كتابه الجديد (حروب تستحق المجازمة).
كل ما كشفه بانيتا في وصفه لعملية اغتيال الشيخ بن لادن ودفنه في البحر هو معلومات قديمة حول كيفية لف جثمانه باسلاك حديدية يزيد وزنها عن 136 كيلوغراما للتأكد من استقرار الجثمان في قاع بحر العرب.
نستغرب كيف تصمت الصحافة الغربية التي لا تترك حجرا دون ان تقلبه خاصة اذا تعلق الامر بالعرب والمسلمين، لاكثر من اربع سنوات، دون ان تقدم لنا الرواية الحقيقة عما حدث في “ابوت اباد”، وتمارس ضغوطا على ادارة اوباما لاثبات صحة ادعاءاتها حول مقتله ودفنه في عمق البحر.
***
من المؤكد ان الرواية الرسمية الامريكية تنطوي على الكثير من الاكاذيب التي تحرص على عدم فضحها، واذكر مرة انني شاركت في برنامج تلفزيوني في محطة “بي بي سي” البريطانية وكان “خصمي” صحافيا بريطانيا عريقا، وعندما شككت في صحة الرواية، ورد علي حانقا باتهامي بأنني مثل كل زملائي من العرب والمسلمين مسكونون بنظرية المؤامرة، وقال ان الرئيس الامريكي لا يكذب.
قلت له ألم يكذب الرئيس جورج بوش الابن وتابعه بلير رئيس الوزراء البريطاني حول اسلحة الدمار الشامل في العراق؟ واضفت: ألم يكذب الرئيس الامريكي الذي سبقه كلينتون عندما قال امام الكاميرات بانه “لم يمارس الجنس مع تلك المرأة” في اشارة الى مونيكا لوينسكي متدربة البيت الابيض؟
من حقنا ان نعرف كل تفاصيل عملية اغتيال الشيخ بن لادن، واخفاء جثمانه بالطريقة التي اخفي فيها، خاصة هذه الايام التي يكثر فيها الحديث عن الارهاب، وترسل الولايات المتحدة طائراتها لقتل الارهابيين في سورية والعراق وتصفية منظماتهم، طالما انها نصبت نفسها حامية لقيم الاخلاق وحقوق الانسان، والشفافية وحرية المعلومات.
كتاب بانيتا خيبة امل كبرى، خاصة الجزء المتعلق منه بهذه الواقعة تحديدا، ويأتي في اطار مسلسل الاكاذيب لخداعنا وتضليلنا، او حكامنا على وجه الخصوص، للتدخل عسكريا في بلداننا، وتحويلها الى مقابر جماعية، ودول فاشلة تعمها الفوضى الدموية.